وتابعت السيارة وهي تغيب عن بصري رويداً رويداً ثم عدت لمنزلي والخواطر تذهب بي كل مذهب. وجاء موعد رحيلي أنا الآخر وتوجهت إلى المدينة المنورة وبعد حين وصلتني أول رسالة من أسامة جاء فيها:
"عزيزي محمد: لقد تخرجت بعون الله وكنت أول دفعتي، والآن إن أملي يوشك أن يتحقق إنني أملك الآن تحت يدي طائرة حربية حديثة.. تدري ماذا وضعت فيها؟ لقد وضعت فيها عن يميني مصحفا وأمامي صورة للكعبة الشريفة، إنني فرح جداً وفخور للغاية كم أتمنى أن أراك، إنني أحياناً يا محمد أصلي داخل الطائرة إنها متسعة نعم تستطيع أن تحمل أطناناً من القنابل لتلقيها على أعداء الإسلام لكم هي جميلة إنني أحبها وأشعر أنها تحبني كم أتمنى أن تُصنع في بلادي. أما من جهة أمي واخوتي فهم بخير إن رسائلهم لا تنقطع عني ، إنني مشتاق لهم وأرجو أن أراهم ولقد وافقت أمي على رغبتها في خطبة بنت خالي لي.. إنها متدينة .. أحمد الله .. وصيتي سر على الدرب يا أخي وأستودعك الله.. أخوك أسامة" كان هذا أول اتصال بيني وبين أسامة بعد تخرجه أما الاتصال الثاني فقد جاء في رسالته:
"أخي محمد: إنني أتألم كثيرا من رؤية شبابنا، يؤلمني منظر الشعر والبنطلون وسلاسل الرقبة واللبان -لقد هجروا المساجد وعمروا السينمات والمسارح إننا في الجبهة لا ننام ليلا ولا نهارا حتى إذا نزلنا اليوم الشهري الذي نرتاح فيه كأننا في عالم جديد .. إنهم يضحكون ويلعبون.. إنني لأشعر أن الفارق بيننا وبينهم كبير.. إن كثيرا من زملائي يشعرون نفس الشعور.. إنني لا أستطيع أن أعيش في هذا العالم - أذكر لك شيئا آلمني جدا: ثلاثة من الشبان المسلمين كانوا يمشون أمامي أحدهم كان ممسكا في يده بفرشاة وإناء به لون أحمر وكان المؤذن يؤذن للظهر في المسجد الذي أمامنا أحدهم قال للآخر انتظرني هنا ( خارج المسجد ) سأدخل الحمام ثم آتي حالا أما الآخران فقام أحدهما بوضع الفرشاة في اللون الأحمر ثم كتب على حائط المسجد( انتخبوا صاحب الرأي الحر ….. ) ثم انصرفوا جميعا.. لقد دخلت إلى الصلاة وقلبي يقطر دما. وصيتي العهد الذي بيني وبينك سر على الدرب يا أخي… أخوك : أسامة".
ولم يمض أسبوع على تلك الرسالة حتى اندلع القتال الضاري في العاشر من رمضان والذي استمر ما يقرب من ثلاثة أسابيع وانتهى بنصر وليس بالنصر كله.
وبينما أنا مار لفت نظري بائع الصحف ولا أدري ما الذي استوقفني إنني أسمع الإذاعة وفيها ما يغني عن الصحافة.. سألت البائع هل جاءت صحف؟ قال نعم ناولني الجريدة ونظرت في الصفحة الأولى وفجأة كأنما الأرض تتزلزل تحت أقدامي واعتراني دوار شديد - ما هذا يا ترى ؟ أهذا الذي أرى حقيقة - إنها صورة أسامة - إنها لتكاد تملأ الصفحة الأولى.. وما هذا العنوان؟ ( استشهاد البطل ). استشهد أسامة.. لقد رحل أسامة .. لقد باع نفسه لله.. وداعا يا أسامة لقد انفردت وحدي.. ورحت أقرأ ما كتب عنه:
"هذا البطل الذي ننشر صورته اليوم رمز لتصميم المسلم وانتقامه، لقد انتقل صائماً أغار بطائرته على القواعد الإسرائيلية ستاً وثلاثين غارة كانت جميعها ناجحة لم يفلح رؤساؤه في إقناعه بالراحة قليلا، لقد رفض كل راحة كانت تعطى له وفي غارته الأخيرة استطاع أن يسقط للعدو في طلعة واحدة خمس طائرات ثم أحس أن الوقود المتبقي في الطائرة لا يكفي لعودته إلى قاعدته.. أخطر القيادة بالأمر .. قال سوف أتصرف.. سوف أنتقم الانتقام الأخير.. ثم ألقى بالطائرة على أضخم قاعدة للصواريخ ( هوك ) أرض جو ولقد اندلعت النيران في كل القاعدة إنه البطل أسامة، الذي ترك وراءه سبعة أطفال أشبه بالطيور التي ما يزال ريشها ممتلئا بالدم.. ترك أمه وخطيبته.. إنه لم يمت .. سيظل حيا دائما".
وما أن انتهيت من قراءة السطور القليلة حتى جمعت قواي وتوجهت إلى منزلي وألقيت بنفسي على السرير وراح طيف أسامة يطوف بخيالي .. رحمك الله يا أسامة.. نعم الشاب المسلم كنت .. لقد كنت صادقاً وكنت غريباً في عالم تنكر لأعظم القيم والمبادئ، ما رأيتك يوماً إلا ذاكراً أو خاشعاً.. كان كلامك يحمل معاني كبيرة ويوحي بنفس عظيمة .. لقد عشت في الدنيا وما عاشت فيك ولقد ابتعدت بنفسك الأبية عن سفاسف الأمور ومادية العصر فكنت جديراً بما اختار الله لك.
وداعاً يا أسامة يا بطل، وسيظل صديقك كما أوصيت على الدرب حتى يلتقي بك فهنيئا لك ومفخرة لصديقك بك وصبراً لأخوتك الصغار ووالدتك المؤمنة الوقورة. وليعلم العالم أن الإسلام ما زال يعطي.. وليعلم العالم أن الإسلام لم يستنفد دوره وأننا ما زلنا بخير .. إن شموعنا لم تنطفئ جميعها…